إن لم يسجل شيئا في تاريخ عهد الملك محمد السادس، فسيكون القرار الجديد بخصوص الصحراء المغربية كافيا، الملك حقق ما لم يتحقق منذ استقلال البلاد، وفتح الباب لإنهاء نزاع عطل المملكة لسنوات.
قائد استثنائي
في تاريخ المغرب المعاصر، يبرز الملك محمد السادس كقائد استراتيجي استثنائي، حول قضية الصحراء المغربية من نزاع إقليمي مفتعل إلى مشروع وطني يجسد السيادة والتنمية والانفتاح الدولي.
منذ اعتلائه العرش عام 1999، اعتمد محمد السادس رؤية ملكية واضحة ومتكاملة، أعادت توجيه مسار القضية نحو آفاق تفاهم واستقرار. هذه الرؤية ليست مجرد خطابات، بل بوصلة استراتيجية دفع المغرب نحو بداية نهاية النزاع، من خلال الجمع بين الثوابت الوطنية والمرونة الدبلوماسية، والتنمية الميدانية كرافعة للشرعية الدولية.
رؤية ملكية استراتيجية
منذ اللحظات الأولى لتولي الملك محمد السادس عرش الدولة، أعلن عن تحول جذري في التعامل مع ملف الصحراء. في خطاب المسيرة الخضراء لعام 1999، أكد الملك: “لقد أخذنا على عاتقنا أمر معالجة ملف الصحراء المغربية بمنظور جديد يتسنى به التعامل معها بإنصاف وموضوعية وواقعية”.
هذا الإعلان كان بوابة لعصر جديد، حيث انتقل المغرب من وضعية دفاعية تركز على إثبات الشرعية التاريخية إلى دينامية فاعلة تجمع بين السياسة والتنمية والدبلوماسية.
سرعان ما رسخ الملك هذا التوجه في خطاب العيون عام 2002، مؤكداً: “المغرب لن يتنازل عن شبر واحد من تراب صحرائه غير القابل للتصرف أو التقسيم.” هكذا، أصبحت السيادة المطلقة قاعدة غير قابلة للمساومة، لكنها مدعومة برؤية واقعية تتجاوز الخطابات إلى الفعل الميداني.
على مدى ستة وعشرين عاماً، تحولت القضية إلى “ورشة استراتيجية” لبناء نموذج حكامة ترابية مسؤولة، حيث أصبحت الصحراء قضية كل المغاربة، وقضية وجود لا حدود لها.
تعزيز الجبهة الداخلية: رافعة الشرعية الوطنية
أدرك الملك محمد السادس أن الشرعية الدولية تبدأ من الوحدة الداخلية. في خطاب المسيرة الخضراء عام 2004، أعلن: “إن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها”، مشدداً على الربط بين التراب والأمة. وفي عام 2009، شدد على ضرورة وضوح المواقف: “إما أن يكون المواطن مغربياً، أو غير مغربي… لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة.” هذه الخطابات لم تكن مجرد تحذيرات، بل دعوة لتعبئة وطنية تجعل الجبهة الداخلية درعاً صلباً، يعزز مصداقية المغرب في الأطر الأممية والإقليمية.
بهذه الطريقة، دمجت الرؤية الملكية بين الثبات في المبادئ والمسؤولية الوطنية، محولة التعبئة الداخلية إلى أداة دبلوماسية. فالوحدة الوطنية ليست شعاراً، بل واقع يقيس به العالم صدق الشراكات المغربية، كما أكد الملك في خطاب ثورة الملك والشعب عام 2022: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم… يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.
الدمج بين الشرعية والتنمية
مع تطور الرؤية، أصبحت التنمية أداة أساسية للسيادة. في خطاب المسيرة الخضراء عام 2014، أكد الملك: “الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود. والمغرب سيظل في صحرائه والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.
هذا الربط بين الشرعية التاريخية والحقائق الميدانية أدى إلى إطلاق النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية عام 2015، باستثمارات تفوق 77 مليار درهم. تحولت مدن العيون والداخلة إلى مراكز اقتصادية نابضة، تجذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وتؤكد أن السيادة تقاس بجودة الحياة لا بالخرائط فقط.
وفي عام 2017، جدد الملك التأكيد على تحسين ظروف العيش، مدمجاً البعد التنموي مع السيادة الوطنية. هذا النهج البراغماتي جعل الصحراء “فضاءً مفتوحاً للتنمية”، كما وصفها الملك في خطابات 2019-2021، حيث أبرز: “أقاليمنا الجنوبية… أصبحت فضاء مفتوحاً للتنمية والاستثمار، الوطني والأجنبي.” اليوم، يعكس هذا الإنجاز تحولاً من المواجهة إلى البناء، حيث أصبحت الإنجازات التنموية دليلاً حياً على مغربية الأرض والإنسان.
تفعيل الدينامية الدولية: من المبادرة إلى الاعتراف
تجسدت عبقرية الرؤية الملكية في مبادرة الحكم الذاتي عام 2007، التي صاغها الملك كحل سياسي واقعي وعملي، منسجم مع القانون الدولي. هذه المبادرة، التي أصبحت المرجع الوحيد ذي المصداقية في مجلس الأمن، دفع المنتظم الدولي نحو تبني “الحل الواقعي القائم على التوافق” منذ عام 2017.
ومنذ 2016، شهدت القضية تسارعاً في الاعترافات: فتح أكثر من 30 قنصلية عامة في العيون والداخلة، من دول عربية وإفريقية ولاتينية، بالإضافة إلى الاعتراف الأمريكي الرسمي في دجنبر 2020 بسيادة المغرب على الصحراء.
في خطاب المسيرة الخضراء عام 2022، وصف الملك الصحراء بأنها “صلة وصل إنسانية وروحية وحضارية واقتصادية بين المغرب وعمقه الإفريقي”، مما جعلها معبراً استراتيجياً نحو القارة السمراء والمجال الأطلسي.
وفي عام 2024، وجه رسالة حاسمة للأمم المتحدة: “لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها… بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته.”
هذه الدبلوماسية الأخلاقية، المبنية على الواقعية والحق المشروع، حولت المغرب من طرف في نزاع إلى صاحب مبادرة يُستشار.
بداية نهاية النزاع
إن الرؤية الملكية للملك محمد السادس هي الإنجاز الأبرز في تاريخ المغرب الحديث، إذ حولت قضية الصحراء من نزاع مفتعل إلى نموذج استقرار وتنمية واحترام دولي. على مدى أكثر من ربع قرن، جمعت بين الثبات في الثوابت والمرونة في الأساليب، محققة وحدة داخلية صلبة، اعترافات دولية متزايدة، وإنجازات تنموية ملموسة. اليوم، مع تزايد الدعم لمبادرة الحكم الذاتي وفتح القنصليات وتبني مجلس الأمن المبادرة كحل وحيد للتفاوض، نصل إلى بداية نهاية النزاع، حيث أصبحت الصحراء أفقاً استراتيجياً للانفتاح الإفريقي والسلام العالمي.
تابعوا طنجة7 على صفحتنا بموقع فيسبوك. وعلى منصة إنستغرام. إضافة لمنصة X وتطبيق نبض
					
							
			
		
		
		
		
		
		
		
		

